في أقصى جنوب العاصمة السودانية الخرطوم، وتحديدًا في منطقة مايو ذات التاريخ الطويل من التحديات والصمود، يبرز سوق شعبي ينبض بالحياة، تتجاوز شهرته مجرد كونه مكاناً للبيع والشراء ليصبح ظاهرة اجتماعية واقتصادية بحد ذاتها. إنه سوق "عفش وسيدو طفش"، الذي وإن كان اسمه يحمل في طياته شيئاً من الفكاهة الساخرة، إلا أنه يعكس واقعاً عميقاً لروح المبادرة والتكيف لدى السودانيين في مواجهة الظروف الصعبة. هذا السوق التقليدي ليس مجرد تجمع للباعة، بل هو مرآة تعكس ديناميكية مجتمع كامل، حيث تتشابك قصص الأفراد مع حركة التجارة لتشكل لوحة حية من الصمود والإصرار.
​يقع سوق "عفش وسيدو طفش" في منطقة مايو جنوب الحزام، وهي منطقة معروفة بكثافتها السكانية وتنوعها الاجتماعي، وكونها ملاذاً للكثيرين ممن نزحوا أو يبحثون عن فرص حياة أفضل في أطراف العاصمة. هذا الموقع الاستراتيجي يجعل من السوق نقطة جذب رئيسية لسكان المنطقة والمناطق المجاورة، مقدمًا لهم شريانًا حيويًا للحصول على احتياجاتهم اليومية بأسعار قد تكون في متناول اليد، بعيداً عن صخب وارتفاع أسعار الأسواق المركزية.
​اسم "عفش وسيدو طفش" بحد ذاته يحمل دلالات قوية. كلمة "عفش" باللهجة السودانية تعني الأثاث أو الممتلكات الشخصية، وغالباً ما ترتبط بالمنقولات التي يتم بيعها أو شراؤها، أو حتى الأشياء التي قد يتخلص منها الناس. أما عبارة "سيدو طفش" فتعني حرفياً "صاحبه هرب" أو "تخلى عنه صاحبه"، وهي تشير على الأرجح إلى بضائع قد تكون مهجورة، أو تم الاستغناء عنها، أو ربما تعكس بيع الممتلكات في ظروف صعبة أو اضطرارية. هذا الاسم وإن كان يبدو ساخراً، إلا أنه يلتقط روح المكان حيث تجد البضائع المستعملة والجديدة، الأشياء الثمينة والزهيدة، كلها معروضة جنباً إلى جنب، كل قطعة تحكي قصة ما، أو تخدم غرضاً جديداً في حياة مشترٍ آخر.
​التجول في أروقة "عفش وسيدو طفش" هو أشبه بالانتقال إلى عالم آخر. لا توجد محلات فخمة هنا، ولا واجهات زجاجية براقة. بدلاً من ذلك، تجد البضائع مكدسة على الأرض، أو معلقة على هياكل بسيطة، أو مصفوفة على طاولات متهالكة. الإطارات المستعملة والجديدة، الأجهزة الكهربائية التي تحتاج إلى إصلاح بسيط أو التي تعمل بكفاءة، الملابس، الأدوات المنزلية، وحتى الأثاث القديم، كلها تجد طريقها إلى هذا السوق. إنه مكان يتيح للجميع فرصة لإعادة تدوير الأشياء، وإيجاد قيمة فيما قد يراه الآخرون "عفشاً".
​الباعة في هذا السوق هم في الغالب من أبناء المنطقة أو النازحين الذين يبحثون عن مصدر رزق. تجدهم يجلسون لساعات طويلة تحت أشعة الشمس، ينادون على بضائعهم، يتفاوضون بمهارة، ويبنون علاقات اجتماعية مع زبائنهم. السوق ليس مجرد مكان للتجارة، بل هو ملتقى اجتماعي حيث تتبادل الأحاديث والأخبار، وتتشكل الصداقات، وتبرز روح التعاون والتكافل. إنه اقتصاد شعبي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يعتمد على العلاقات الشخصية والثقة المتبادلة.
​في سياق التحديات الاقتصادية التي يواجهها السودان، يزداد دور أسواق مثل "عفش وسيدو طفش" أهمية. فمع ارتفاع تكاليف المعيشة وتآكل القوة الشرائية، تصبح هذه الأسواق الملاذ الأخير للكثير من الأسر لتلبية احتياجاتها الأساسية. كما أنها توفر للعديد من الأفراد فرصة لبيع ممتلكاتهم القديمة أو إصلاحها، مما يسهم في خلق نوع من الاقتصاد الدائري على مستوى محلي.
​إن سوق "عفش وسيدو طفش" في مايو ليس مجرد سوق لبيع وشراء "العفش"؛ إنه رمز للقدرة على التكيف والمرونة، ومثال حي على كيف يمكن للمجتمعات أن تخلق فرصًا وتصمد في وجه الظروف الصعبة. إنه جزء لا يتجزأ من هوية منطقة مايو، وشاهد على قصص لا حصر لها من الكفاح والأمل في قلب الخرطوم.